" وطنٌ بلا وفاء، وشعبٌ بلا ذاكرة "... إبراهيم ولد عبد الله

أحد, 17/08/2025 - 14:07

بنشاب : في رُبوعٍ تلبّدت سماؤها بالنفاق، وسكنت أرضها أرواحٌ تنكر الجميل كما يتنكر الليل للفجر، نُبصر مشهداً فريداً في خريطة الوجدان الإنساني: دولةٌ لها اسمٌ على الورق، وحدودٌ في الخرائط، وحكومةٌ تدير، لكن دون شعبٍ بمعنى الشعب؛ لا مواقف تُبنى، ولا ولاء يُرتجى، ولا ذاكرة تحفظ المعروف.

إنه شعبٌ إذا حضر السلطان بايعوه، وإذا غاب لعَنوه، وإذا وُزّع الخير اقتسموه، ثم أنكروه حين أُخذ منهم. شعبٌ كلُّ رئيسٍ عنده منقذٌ حتى يرحل، فإذا ولى صار سارقًا، نُسيت أياديه، وطُمست إنجازاته، وسُخِر من إخلاصه. أليس هو ذاك الذي كان يمشي بين الناس بلا حُجّاب؟ أليس هو من حوّل المستشفيات من أطلالٍ إلى مراكز؟ من انتشل التعليم من حضيض التهميش إلى رحاب الرؤية؟ من غرس في أرض الوطن ما لا يُعد من المشاريع، وسقى العطاشى، وداوى المرضى، وأكرم العلماء والجنود والمعلمين؟

لكنه حين سلّم الأمانة، لم يُكرم، بل جُعل عبرة لمن أراد أن يخدم دون أن ينهب. نُكّل به، لا لشيء، إلا لأنه آمن بأن الوفاء يُقابَل بالوفاء، لكنه نسي، أو تناسى، أن في هذه الأرض من لا يعرف الوفاء، وأن من أخلص لهم هم أول من سيقذفونه بحجارة الجحود.

يا شعبًا لا يحفظ المعروف، ولا يقدّر المروءة، أما آن لك أن تنظر في المرآة؟ أن ترى أن حالك ليس قدَرًا بل صُنعُ يديك؟ ظلمٌ تعيشه لأنك باركت الظلم، وتهميشٌ أنت فيه لأنك همّشت كل من خدمك، وتنكيلٌ لا ينفك عنك لأنك كنت أول من نكّل بفرسان المواقف.

صَمَتَّ حين وجب الكلام، وناصرت الباطل حين صاحَ الحق، وغيّرت وجوه الولاء كما تتقلب الرياح. لو أنك احترمت ذاتك يوماً، لأُجبرتَ الآخرين على احترامك، لكنك اخترت أن تكون خاضعًا متملقًا، لا تُحركك إلا المصلحة، ولا تُرضيك إلا الغنيمة.

أما آن لهذا البلد أن يكون له شعبٌ يُشبهه؟ شعبٌ يستحق نعمه، ويصون رجاله، ويكافئ الإخلاص لا بالنفي، بل بالتكريم؟ أما آن لهذا التراب أن يرتوي بولاء لا يُشترى، وبصمت لا يُباع، وبشعبٍ إذا عاهد وفى، وإذا خُدمَ شكر؟

إنها الدولة التي لا شعب لها... بل جمهرةٌ من الوجوه المتقلبة، والقلوب المتقاعسة، لا يُحسنون إلا التهليل عند المنفعة، والتبرؤ عند الشدة. فأبشروا بما أنتم فيه، فأنتم صنيعة أنفسكم... وما ظلمكم أحد.