
بنشاب : ما أشدّ عتمة النهار إذا أظلم في عيون من أنِسوا بضيائه
وما أوجع الطعنة إذا انبثقت من خاصرة الثقة، لا من جهة العداء.
كان بينهما عهد، لا تدرك كنهه الألسن العابرة، ولا تبلغه مدارك أصحاب المواقف المعلّبة.
عهدٌ صُبّ في قوالب الخفاء، وصُقل بتجارب الصمت الصارخ، لا بالصخب الأجوف،
رفقة لم تكن عابرة، بل تمتدّ جذورها في تربة الميدان، لا في صالونات المصلحة،
فإذا بمن تربّى في حضن المودة، وتفيّأ ظلّ الصبر،
يبدّل ثوبه حين اشتدّ ساعده، ويجحد السلم الذي ارتقاه.
هل كان الانتظار أن تنكر الملامحُ المرايا؟
أم أن تقتفي الريحُ أثر النار لتخمدها؟
كلا، بل كان الحلم أن تظلّ الملامح وفيةً لأصلها،
وأن لا يبتلع الأفقُ الطائر الذي علّمه الطيران من كان له الجناح.
لكأنّ الذاكرة قد تعطّلت عمدًا،
ولكأنّ التضحية صارت مأخذًا، والموقفَ جرمًا،
حتى غدا من كان الكتف، عبئًا، ومن كان النصير، خصمًا.
أيّ رُقيٍّ هذا الذي لا يكتمل إلا بإسقاط من رفعك؟
وأيّ مُلكٍ يُؤسَّس على أنقاض المعروف وخراب الصداقات؟
إنها خيانة لم تُنطَق، بل أُديرت بصمتٍ خبيث،
خيانة لا تقيم صريح الجفاء، بل تلبس ثوب الحذر،
وتتّخذ من البرود جدارًا، ومن الإنكار درعًا،
فيحسبها الجاهل فتورًا،
لكنّ من قرأ ما بين السطور، أدرك أنها خيانة مشفوعة بالحسابات.
هو لم يُقصه، بل صفّاه كما تُصفّى الحسابات القديمة،
لا لأنه أخطأ، بل لأنه يذكّره بمن كان يومًا تابعًا،
وتلك لعنةٌ لا يحتملها من ظنّ أن العرش يمحو السيرة،
وأن الرفعة تُنجَز وحدها، لا تُوهب.
لكن، ما الذي ضاع من الأول؟
أخٌ؟ لا، فقد سقط القناع عن وجهٍ لم يعُد يشبه الرفقة.
وصديق؟ بل قناع صداقة انكشفت تحته أطماع السياسة،
وأما الوفاء؟ فقد وُدِّع يوم استُبدلت المعاني بالتوازنات،
ويوم أُقصي الأصل كي لا يظلّ شاهداً على هشاشة الفرع.
لا حاجة له أن يُدافع،
فالعظماء لا يرفعون أصواتهم في سوق الضجيج،
ولا ينحنون ليتّقوا غدرًا أتوا فوقه،
ولا يطلبون الإقرار ممّن كفّر بجميلٍ شهد به الزمان.
أما الآخر، فليهنأ بحكمٍ أعماه عن جذوره،
وليتقن تقمّص دور الحكيم،
لكنّه يعلم — وإن ضحك كثيرًا — أن اليد التي صنعت مجده، ما زالت شاهدة،
وأنّ من نكث العهد، سيظلّ في قرارة نفسه مديونًا،
ولو أقام الدنيا صمتًا وجحودًا.
فالقصّة ليست حكاية نكرانٍ فحسب،
بل اختزالٌ فجّ لمعنى الصداقة،
وغدرٌ مؤجّل، تأنّى حتى نضجت أدواته،
ثم فُجّر بصمت، ليُفهم أنه “تدبير دولة”،
بينما هو في جوهره، لا يعدو كونه هروبًا من الاعتراف،
وهدمًا لذاكرة أرّقت صاحب القرار.
فليهنأ بمنصبه،
وليفخر بإقصاء من رافقه دهراً،
لكنّ التاريخ لا يُكتب بالحبر الرسمي،
بل بنبض الناس، ووجدان الأوفياء،
ومنه سيُقرأ الفصل:
أنّ من زرع، لم يُحصد له شكر،
وأنّ من سقَى، أُطفئ عطاؤه بالنكران.
