
بنشاب : في زمنٍ تعثر فيه الخطى، وتُزهق فيه القيم تحت أقدام الصخب، يُبعث التاريخ من رماده ليحدّثنا عن رجالٍ إذا طُمس ذكرُهم، لمع أثرُهم، وإذا أُغلقت دونهم الأبواب، فتحوا للدهر نوافذ من نور.
هم أولئك الذين لا تصنعهم المنابر، بل تُنحت ملامحهم في صخر المحن، وتُروى جذورهم بمداد الصبر، حتى إذا استوى عودهم، نظر إليهم الزمان وقال: "هؤلاء ورثةُ المجد، وإن طال غيابهم."
فانظر إلى يوسف عليه السلام؛ صبر حتى تقادمت عليه الليالي في سجن مظلم، فما وهن، وما جزع، وما بدل تبديلا. فلما جاء أمرُ الله، خرج لا مدّعٍ لمجد، بل مستحقًّا له، يقول:
"اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم"
ذلك لسانُ الثقة المضمخة بالطهر، لا الغرور.
هكذا هم العظماء، لا يُخدع بهم التاريخ، لأنهم يسكنون ذاكرته... لا صراخ لهم، ولا استعراض، بل وقارٌ في الخطى، وصمتٌ تتكلم فيه المواقف.
لا تسأل عن الزعامة حين تُنزع عن الأكتاف، اسأل كيف بقيت في القلوب! فالزعامة ليست منصبًا يُمنح، بل نارًا تُوقد في صدر صاحبها، حتى إذا اكتمل احتراق الذات، أضاءت لغيره الدرب.
ومن لم يزده السجن إلا حكمة، ولم تزدْهُ المحنُ إلا طهرًا، ولم يُخرج من الظلمة إلا وهُو نورٌ يسير على قدمين… فهو من طينةٍ غير التي نألف، وسِرٌّ لا يَكشفه الزمان إلا على مهل.
الزعيم الحقيقيّ لا يُعاقب بالفقد، بل يُختبر بالصمت، فإن عاد، عاد وقد لبس المجد من داخله، لا من حوله.
هم رجالٌ إذا مضوا في الناسِ سادوا، وإذا غابوا عن المشهد، بقيت أنفاسهم تعبقُ في الهواء، وتُسمَعُ حِكمتُهم بين الشقوق، كما يُسمَع الماءُ في أعماق الأرض.
فالتحيةُ لكلّ من دخل "جبّ يوسف" فتيًا، وخرج منه قائدًا، ولكلّ من مرّ بالمحن، فلم يخرج منها بوجهٍ غاضب، بل بجبهةٍ عالية ويدٍ حانية على الأمة.
إذا ما هبّتِ الريحُ العنيفةُ، لم تزعزع جذوعَ السنديان، بل أزاحت أوراقَ العابرين.
ولئن كان يوسف عليه السلام قد خرج من السجن إلى التمكين، فاعلم أن الله لا يضيع من أخلص له النية، وإن طال به البلاء.
فطوبى لمن ألقى التاريخُ عليه غبار النسيان، ثم نفخه الله في وجه الزمان، فعاد لامعًا كأنما لم يغِب قط.
هؤلاء... لا تُسقطهم العواصف، لأنهم خُلقوا ليكونوا أعمدة لها.
