
بنشاب : في دروب الحياة، يمرّ الإنسان بمحطات تختبر الصدق والوفاء، وتكشف المعادن في لحظات الشدة، لا في ساعات الرخاء. هناك، حيث تصفو الرفقة وتتجلى المعاني، ينبت الحبّ الصادق، ويُروى بماءِ العهد، ويُظلّل بمودّة لا تعرف الخذلان.
لكنّ ما أقسى أن يُطعَن المرء من الخلف، لا بسيف عدوٍّ ظاهر، بل بخنجر صديقٍ كان يُحسب جزءًا من القلب، وظلاً لا يفارقه في صيفٍ ولا شتاء. تلك هي الخيانة التي لا دواء لها، ولا يمحو وجعها تعاقب الأيام، لأنها لا تجرح الجسد بل تكسِر الروح.
الخيانة... ليست خطأ، بل قرار. قرار يقطع أوتار المحبة، وينسف جسر الثقة من أساسه. كيف تخون من فتح لك قلبه، وآواك في عواصف الزمان، وأبقاك موضع سره وقرّة عينه؟
قال الله تعالى:
"يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون" [الأنفال: 27]
فالخيانة لا تبدأ حين تنكسر العلاقة، بل تبدأ حين يتصدع الصدق في القلب، حين يُستبدل الوفاء بالحسابات، ويُقدَّم الهوى على الحق.
إنّ من أعظم البلايا أن يبيع الإنسانُ ماضِيه من أجل مكسبٍ زائل، أو يضحّي بالأوفياء على مذبح الأطماع، متناسيًا أن الأيام دول، وأن الله يُديل الحق على الباطل ولو بعد حين.
ولا خيرَ في خِلٍّ يخونُ خليلهُ
ويلقاه من بعدِ المودةِ بالجفا
أين المروءة حين يُستبدل الإحسان بالنكران؟ وأين الشهامة حين تُنكر العشرة ويُنسى المعروف؟
إذا أنت لم تشربْ مرارَ الهوى معي
فدعني ولا تُكثرْ عليّ الملاما
كم من علاقاتٍ تهدمت لا لأن الزمان تغيّر، بل لأن القلوب تبدلت، والنفوس انحرفت عن جادة الوفاء!
ليست الخيانة مجرد خطيئة أخلاقية، بل هي انحراف عن إنسانية الإنسان، وتنكُّر لأقدس ما يُبنى عليه العمر: الثقة.
فلْيتأمل كلُّ امرئٍ نفسه، ولْيسألها:
هل أنا من أهل الوفاء؟
هل أحتفظ بعهد من رافقني الطريق؟
هل أستحق أن أُدعى صديقًا؟
واعلموا يا من في القلوب صدق:
أنّ الخيانة لا تبني مجدًا، وإن رفعت صاحبها حينًا، فإنها لا تلبث أن تردّه إلى أسفل سافلين، لأنّ من يخون الخليل، لا يؤتمن على وطن، ولا على عهد، ولا على شيء من شؤون الناس.
وقد قال الحق سبحانه:
"إن الله لا يحب من كان خوانًا أثيمًا" [النساء: 107]
والله لا يضيع أجر من ثبت على الوفاء، وأبى أن يُقايض شرف العهد بحفنة مصالح أو زخرف من زينة الحياة الدنيا.
فيا أيها السائرون في طرق الرفقة والوداد:
الوفاء كنزٌ لا يُشترى، فمن وجد في نفسه صدقه فليحمد الله، ومن وجد في قلبه خيانةً، فليتب قبل أن يُختم على قلبه، ويصير ممن خانوا العهد وكانوا من الخاسرين.
إذا المرءُ لم يدنَسْ من اللؤم عرضهُ
فكلُّ رداءٍ يرتديه جميلُ